الشباب والتوازن المطلوب
نيافة الأنبا موسى
لعل أهم فضيلة يجدر بشباب هذا العصر أن يتحلوا بها هى فضيلة: "التوازن"... ذلك لأن عالم القرن الجديد، سوف يحفل بثنائيات كثيرة، تستدعى منا أن نتخذ موقفاً متوازناً وحكيماً.
والتوازن طبعاً هو عكس التطرف، فالتطرف هو أن يركن الإنسان إلى أحد طرفى المعادلة أوالميزان، ويتجاهل وينفى الطرف الآخر، أو الكفة الأخرى من الميزان.
كما أن التوازن هو من أهم مؤشرات الصحة النفسية، كما يقول علماء النفس...
من هنا يكون لزاماً علينا أن نتعرف على بعض ثنائيات القرن الجديد، لكى نتخذ الموقف المتوازن منها، فلا نتطرف يميناً أو يساراً.. وقديماً قالوا: "الطريق الوسطى خلصت كثيرين"... كما قال سليمان الحكيم: "لا تكن باراً كثيراً.. لماذا تخرب نفسك" (جا 16:7).
والثنائيات التى تحتاج منا إلى توازن ما يلى:
1- بين التراث والمعاصرة: مع النبرة المتزايدة فى اتجاه المعاصرة، وعدم الانسحاب من تيار الحياة، والجديد التكنولوجى، وثورة الاتصال الحديثة، ورياح الحرية، ودواعى التجديد والتغيير، ودعاوى الليبرالية والتقدمية... وكلها أمور هامة ومفيدة، يحتاج شباب 2000 إلى التمسك بجذور التراث والأصالة، فبدون جذور لا ينمو الساق، ولا تظهر الأوراق، ولا تشرق الأزهار، ولا نجنى الثمار.
التراث هو بمثابة الجذور، التى نستمد فيها عصارة الحياة، فالحياة لا تبدأ من فراغ، والحاضر كان جنيناً فى رحم الماضى، كما أن المستقبل هو جنين فى رحم الحاضر.
نعم، ينبغى أن تكون لنا رؤية مستقبلية، حتى أن هناك الآن علم "المستقبل" (Futurology).. ولكن التطلع إلى المستقبل ينبغى أن يبنى على مراجعة الماضى واستيعاب دروس ومعطيات التراث، السخى والهام. ومن خلال استيعابنا للكتاب المقدس، وكتابات الآباء، وأعمال المجامع المحلية والمسكونية، ودراسة التاريخ المسيحى، الكنسى والعالمى، ومن خلال دراسة التاريخ العام، والتعرف على الجذور، والهوية القومية، والكفاح الإنسانى العام (ضد العبودية مثلاً)، والكفاح الوطنى الخاص (ضد الاستعمار مثلاً).. تراث ضخم: روحى وثقافى ونفسى واجتماعى ووطنى... يجب أن نستوعبه قبل أن نحدد لأنفسنا رؤى المستقبل ومعالم الطريق.
من هنا كان لابد لنا من معهد الدراسات القبطية، والكلية الاكليريكية، والشهادات العلمية، والبحوث المتخصصة، لكى نستزيد من تراث الماضى، تحسباً لخطوات المستقبل. ولكن دون إغراق فى "السلفية"، أو تحجر عند عصر معين، أو الافتخار بتاريخ انتهى واقعياً.. وكذلك دون إلغاء لمفردات ومنجزات العصر الحديث، روحياً وفكرياً وتكنولوجيا ومعلوماتياً.. فمن خلال هذا المزيج، تتضح الرؤيا، ونضمن سلامة الخطوات.
2- بين المادة والروح: فى العالم الآن ثقافتان، المادية والروحية، وهناك خطر التطرف فى الاتجاهين، فإذا ما سيطرت الثقافة المادية، تحول الإنسان إلى سلعة، والحياة إلى صفقات، وأنحبس البشر فى "حركة التاريخ الزمنى"، وصراعات اللقمة والبترول والموارد المادية، والأرض، ونسوا أن فى داخلنا عنصر "الروح" الذى يتطلع إلى الإلهيات، والأبديات، وما وراء المادة والطبيعة والزمن والموت!!
وبالعكس، إذا انحصر الإنسان فى الروحيات وأهمل المادة، تطرف فى اتجاه آخر مضاد، فأهمل جسده، مع أن الكتاب يقول "لم يبغض أحد جسده قط، بل يقوته ويربيه" (أف 29:5)، أو يمكن أن يهمل صرخات الفقراء والمساكين، مع أن الرب يقول على لسان يعقوب الرسول: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصياح الحصادين قد دخل إلى أذنى رب الجنود"
(يع 4:5).
وهكذا نحتاج إلى التوازن بين الثقافتين: المادية والروحية، فنهتم بإشباع الروح بكلمة الله، والصلاة، والأسرار المقدسة، والقراءات والاجتماعات الروحية والأصوام، والمناسبات والأعياد الكنسية، وخدمة الفقراء والمحتاجين والمظلومين والفئات الخاصة: كالمعوقين بدنياً أو ذهنيا، والمكفوفين، والصم والبكم.. الخ. وكذلك نهتم بإشباع الجسد: بالدراسة والعلم والعمل وإنماء الدخل وتكوين أسرة مقدسة مسيحى، وحياة معيشية معقولة... كذلك بالأهتمام والالتزام بالعمل المجتمعى الوطنى والعام، فنحيا جزء من هذا الوطن، وعلينا دور، وعندنا رسالة، وأمامنا جهد مطلوب من أجل بناء والإنسان المصرى، بل الإنسان عموماً فى كل بقاع الأرض.
هذا الاهتمام المتوازن مطلوب، بين المادة والروح، فالرب الذى مكث مع الشعب ثلاثة أيام يعلمهم بكلمة الله، حينما جاع الشعب، قال للتلاميذ: "أعطوهم أنتم ليأكلوا" (مت16:14)، وهكذا اهتم بالروح والجسد معاً.
ونحن نؤمن أنه كما شارك الجسد الروح فى الخطية وفى آلام هذا الزمان، سنقوم بجسد روحانى، حتى يشترك مع الروح فى أمجاد الملكوت العتيد.
3- بين الإنسان والآلة: مع صيحة التحديث والميكنة، هناك خطر داهم على حياة الإنسان، فسوف تقوم الماكينة بعمل مجموعة ضخمة من العمال، مما يهدد بتزايد معدلات البطالة، حتى فى العالم المتقدم صناعياً وتكنولوجياً. وهذه ملاحظة ماثلة للعيان، فالدول الصناعية المتقدمة حّدثت، صناعاتها، وهكذا استغنت عن عدد كبير من العمال، كما أنها هاجرت بماكيناتها إلى دول العالم الثالث حيث العمالة الرخيصة، فازدادت مشكلة البطالة سوءاً. وأصبحنا نسمع عن "إعادة التدريب" حتى يتعلم من كان يعمل فى صناعة ما، وسائل جديدة لصناعات أخرى مطلوبة... وكذلك بدأنا نسمع عن "المشاريع ذات العمالة الكثيفة" وعن "البعد الإنسانى فى التصنيع"... وهى كلها محاولات جيدة، ولكنها لا تلغى وجود مشكلة خطيرة، أن الآلة حلت محل الإنسان، فى مواقع كثيرة، وبأعداد كبيرة.
توازن آخر مطلوب، كيف نستمر فى التقدم التكنولوجى، ونجد فرصاً جديدة لعمالة الأجيال الصاعدة؟! لعل هناك من يبحث الآن عن مخرج لهذه المشكلة، التى بدأت تنعكس خطورتها على الفرد والأسرة والمجتمع.
4- بين الزمن والأبدية: من أخطر مشاكل العصر الانحباس والأنحصار فى الزمن، أى فى الحياة الأرضية، بعد أن تعقدت مشاكلها، وتشعبت مسالكها، وصارت عبئا ثقيلاً على الإنسان، أنساه البعد الأبدى والأخروى فى حياته. فإن كانت حياتنا الأرضية محدودة، فحياتنا الأبدية غير محدودة، وإن كانت حياتنا تشبه كتاباً فالزمن هو المقدمة، والأبدية هى المتن!!
وما أخطر أن يركز الإنسان فى حياته الأرضية فقط، ويتجاهل أبديته اللامتناهية!! "فماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله، وخسر نفسه" (مت 26:16)، وما الفائدة من أن يكتنز الإنسان الكثير من مقتنيات هذا الزمان، وينس اللؤلؤة كثيرة الثمن؟!
توازن آخر مطلوب من شباب هذا العصر، أن يهتموا بتكوين أنفسهم زمنياً، لكن دون أن يهملوا فى تكوين أنفسهم أخروياً!! فقلب الإنسان المثلث، لو وضعنا فيه حتى الكرة الأرضية، فستبقى زوايا المثلث فارغة، ولن يشبع قلب الإنسان المثلث، إلا الله مثلث الأقانيم.
الإنسان بئر من الرغبات - كما يقول باسكال - وهذه الرغبات المستمرة، لا يشبعها إلا غير المحدود، الله اللامتناهى!! فالإنسان فيه "عطش مطلق"، "وجوع مطلق"، ولا يشبعه ولا يرويه إلا الله غير المحدود!! وتعالوا نتذكر السامرية، وبئر يعقوب، وماء الحياة، الذى من يشرب منه "لا يعطش إلى الأبد بل الماء الذى أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية" (يو 14:4).
5- بين القداسة والعدالة الاجتماعية: يتحدث العالم الآن عن العدالة الاجتماعية، حتى قيل أن القرن الجديد سيكون "قرن حقوق الإنسان"، وهذا شئ طيب... ومنظمات حقوق الإنسان انتشرت فى كل مكان، تراقب وتحاسب وتطالب، وتكشف نواحى الظلم والقمع والتمييز، الدينى أو الثقافى أو العرقى... وترفض أن يكون هناك سجناء رأى، وتفتش عن من يعيشون تحت خط الفقر، أو فى مجاعات أو أوبئة أو فى هجرة جماعية نتيجة الحروب أو المظالم... أو عن أطفال الشوارع، وعمالة الأطفال، أو العنف ضد المرأة، إلى غير ذلك من أمور هامة فعلاً.
لكن الخطر يكمن عند الاكتفاء بالعدالة الاجتماعية، وعدم الالتفات إلى أهمية القداسة، التى بدونها "لن ير أحد الرب" (عب 14:12). القداسة أصبحت عملة صعبة، والحديث عنها أصبح حديث الأمانى والأساطير، بينما الحقيقة أن القداسة هى الضمان الحقيقى لسعادة الإنسان: زمنياً وأبدياً، بدنياً وروحياً، شخصياً وأسرياً واجتماعياً!!
خطر كبير هذا الانحلال الخلقى، والفساد الوظيفى، وقبول الرشاوى، والانفلات الجنسى، والبلطجة، والتحايل على القانون... هذا كله خطر على الفرد، والأسرة، والمجتمع... بينما تربية ضمير حى يقظ، وإنسان روحانى مقدس، يراعى الله فى كل تصرفاته وعلاقاته وطموحاته، ويهتم بخلاص نفسه، أمر هام للغاية، سواء فى المصير الزمنى أو الأبدى.
القداسة
E
مكسب للروح... حين تشبع بالله.
E
ومكسب للذهن... حين تستنير بنوره.
E
ومكسب للنفس... حينما تنضبط غرائزها بالجهاد والنعمة.
E
ومكسب للبدن... حينما يبتعد عن التدخين والخمور والمخدرات والنجاسة بأمراضها الخطيرة...
E
ومكسب للعلاقات... حينما تنجح بالمحبة!!
بينما النجاسة تدمير شامل للإنسان، بكل مكوناته!! لذلك فهناك توازن مطلوب، بين خدمة الجسد والزمن والمادة، من خلال حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية، وبين خدمة الروح والخلود والأبدية، من خلال التدين السليم!!