الشباب... والحرية المنضبطة
نيافة الأنبا موسى
الحرية صيحة إنسانية، ورغبة متنامية، فى كل أنحاء الأرض، وبخاصة فى العصر الحاضر. والقرن الحالى يدعى قرن "حقوق الإنسان والحريات". والتاريخ كله عبارة عن صراعات البحث عن الحرية، سواء الحرية السياسية أو الاقتصادية أو الإجتماعية. والحرية قيمة هامة، بل احتياج نفسى جوهرى، بدونه لا ينمو الإنسان، ولا يحقق ذاته وقراراته وخصوصيته... وهذه كلها احتياجات نفسية هامة، بدونها لا يحصل الإنسان على سلام النفس وصحتها وتوازنها.
ولاشك أن الله خلقنا أحراراً، وقد كلفته حريتنا ثمناً باهظاً!. ولكن هناك حرية مزيفة هى أقرب إلى العبودية، لأن "من يفعل الخطية فهو من إبليس" (1يو 8:3). بينما هناك "الحرية الحقيقية" التى حدثنا عنها رب المجد حينما قال: "وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو 32:
، وكذلك فى قوله: "إن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو 36:
.
ولاشك أن موت المسيح وقيامته، هما السبيل إلى إعطائنا هذه الحرية الحقيقية البناءة... فكيف السبيل إلى ذلك؟
الله خلقنا أحراراً
لقد خلقنا الله "على صورته" (تك 27:1)،
فلأن الله خالد، وضع فينا روحاً عاقلة خالدة،
ولأن الله هو "اللوغوس" أى الحكمة اللانهائية، أعطانا العقل والنطق.
كما أن الله حرّ، لذلك منحنا الحرية، بمعنى أنه أوصانا بما هو صالح وبناء، وحذرنا من دمار الخطيئة، ثم ترك لنا حرية القرار.
كذلك فالله قدوس، لذلك خلقنا على صورته فى البر والقداسة، وهكذا سلكنا إلى حين، فى جنة عدن.
ولكى تكون أمامنا فرصة الإختيار، وحرية إتخاذ القرار، سمح الله بسقوط الشيطان، وتركه حياً، لنختار بين أمرين:
السير مع الله أو السلوك مع الشيطان وتحت سلطانه المهلك. ومع أن الإنسان اختار فى جنة عدن، أن يسلك بحسب الشيطان، ويخضع لغوايته بهدف أن تنفتح عيناه، ويصير مثل الله، إلا أن هذا الخضوع دخل بالإنسان إلى ظلمة الجهالة والخطيئة، فدبّ الفساد فى طبيعته الإنسانية، وسقط تحت حكم الموت.
ولم يتركنا الرب فى هذه الحالة، ولكنه وضع تدبيراً لخلاصنا، مقدراً ضعف طبيعتنا، وغواية العدو لنا. وقد سار هذا التدبير فى المراحل التالية :
1-
الوعد... حينما وعد بأن نسل المرأة، سوف يسحق رأس الحية... حين قال الرب للحية: "أضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه" (تك 15:3).
2-
الإعداد... حينما أعد البشرية بالآباء والأنبياء، وجهز لنفسه شعباً خاصاً، طهره من عبادة الأصنام، حتى جاءت منه عذراء طهور، هى القديسة مريم. كما تمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية فى القرن الثالث قبل الميلاد، تمهيداً لانتشار الإنجيل فى كل العالم مستخدماً اللغة اليونانية التى سادت فى كل مكان، مع سيطرة الإمبراطورية اليونانية. كما أعدت الإمبراطورية الرومانية شبكة ضخمة من الطرق عابرة القارات، وأمَّنتها بجيوشها القوية، مما سهل على الرسل السفر إلى كل العالم المعروف آنذاك، ونشر كلمة الإنجيل وبشارة الخلاص. حتى من كانوا وثنيين أرسل إليهم الفلاسفة والمفكرين، الذين نشروا كتاباتهم الداعية إلى الفضائل، والتواقة إلى ظهور المخلص.
3-
الميــــــــــــــلاد... حينما ولد الـرب من مريم العـذراء، بعد أن حـلّ الـروح القدس عليها، وطهَّرها، وقدَّس المادة المأخوذة منها لتكوين جسد المسيح، ودعى "القدوس" المولود منها "يسوع" (أى المخلص)، و "عمانوئيل" (أى الله معنا)، و"المسيح" (أى الممسوح المنتظر لخلاص جنس البشر).
4-
الكرازة... حينما نشر الرب كلمة الخلاص، ونور الإنجيل، وتعاليم الملكوت، وطلب من الناس أن يتوبوا "لأنه قد أقترب ملكوت الله" (مر 15:1)... وهى نفس بشارة التلاميذ للمسكونة كلها (لو 11:10).
5-
الفداء... وفيه استطاع اللاهوت المتحد بالناسوت أن يجدد خلقتنا الفاسدة، كما استطاع الناسوت المتحد باللاهوت، أن يموت نيابة عنا. وهكذا تم حل المشكلتين النابعتين من السقوط القديم وهما: حكم الموت، وفساد الطبيعة الإنسانية. وإذ أعطانا الرب الطبيعة الجديدة بالأسرار المقدسة، ورفع عنا حكم الموت، نلنا الغفران، وتحررنا من عبودية ابليس، ومن نير الخطيئة الساكنة فينا، والخارجة عنا.
6-
القيامة... وفيها قمنا مع الرب، وجلسنا معه - بالإيمان - فى السماويات، وانفتح لنا الفردوس، ثم الملكوت الأبدى... لأننا "كما لبسنا صورة الترابى، سنلبس أيضاً صورة السماوى" (1كو 49:15). وهكذا هتفنا مع مسيح القيامة: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهى الخطية، وقوة الخطية هى الناموس. ولكن شكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو 55:15-57). وهكذا تحررنا من خطايانا الجدية والفعلية، وصار لنا الوعد الإلهى: "الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس، بل تحت النعمة" (رو 14:6)... فنلنا الحرية من سطوة الخطيئة، وتجـددت
صورة الله فينا مرة أخرى.
7-
الصعــــــود... حيث صعدت أفكارنـا وقلوبنـا مـع المسيـح الصاعــد إلى السموات، لأنه "إن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح
جالس اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متّم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله. متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه فى المجد" (كو 1:3-4). "وحيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم أيضاً" (لو 34:12).
8-
حلول الروح القدس... الذى معه نصير خداماً نخدم مع تلاميذ المسيح، متذكرين قول الرب: "أقيموا فى مدينة أورشليم (الصلاة)، إلى أن تلبسوا قوة من الأعالى" (لو 49:24). "ستنالون قوة، متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لى شهوداً، فى أورشليم، وفى كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض" (أع 8:1). "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد" (غل 16:5). "امتلئوا بالروح" (أف 18:5).
9-
عضوية الكنيسة... فالذين اعتمدوا، ونالوا المسحـة المقدســـة، وثبتوا فى المسيح يسوع بالتناول، وجددّوا عهودهم بالتوبة، صاروا أعضاء حية فى جسد
المسيح: الكنيسة، وتمتعوا بالإتحاد مع رب المجد: رأس الجسد، ومع قديسى السماء: الأعضاء غير المنظورة، كما اتحدوا مع بقية المؤمنين: المجاهدين معنا فى طريق الخلاص، وخدمة الملكوت.
10-
الثمار والمواهب... فالذين امتلأوا بروح الله، أعطاهم الرب من ثمار روحه القدوس: "محبة، فرح، سلام، طول أناه، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف"
(غل 22:5)... كما أعطاهـم مـواهب للخدمـة: "كــــلام حكمة، كـلام علــم، إيمــان، مواهب شفاء، عمـل قــوات، نبــــــوة، تمييـــــز الأرواح، أنــــواع ألسنـــة، ترجمـــة
ألسنة" (1كو 8:12-10)... "هذه كلها يعملها الروح الواحد" (1كو 11:12). وبهذا التدبير الإلهى الكامل، يخلص الإنسان، ثم يصير عضواً حياً فى الجسد، ويخدم بالمواهب التى يعطيها له الرب، إلى أن تنتهى رسالته على الأرض، فتذهب نفسه إلى الفردوس، وفى يوم القيامة العامة والمجىء الثانى، تتحد النفس بالجسد، ويقوم الإنسان بجسد نورانى روحانى سمائى ممجد، وينطلق مع موكب القديسين القادمين مع الرب على السحاب، صاعداً إلى سماء السموات، ليقضى الأبدية السعيدة مع الرب فى أورشليم السمائية، بعد أن يتحرر من الجسد الترابى، والخطيئة الساكنة، والشيطان المقاوم، والعالم المعثر.
الحرية المطلقة... وهم يتصور الشباب أن هناك شئ إسمه "الحرية المطلقة" Absolute Freedom، وهذا وهم كبير، فهناك بالضرورة حدوداً لحريتنا. فمع أنك حرّ فى أن تكون لك سيارة، تقودها فى أى مكان، لكنك تخضع لقيود قوانين المرور والترخيص والقيادة والإشارات الضوئية وإجراءات السلامة... الخ. ومع أنك حرّ فى أن تأكل النوعية التى تختارها من الطعام، والكمية التى تريدها، لكنك مقيَّد بأنواع الطعام البناءة، وبكمية الطعام المناسبة، وإلا أصابتك أمراض كثيرة. لذلك فالحرية المطلقة وهم كبير... وما يحياه بعض الشباب فى الخارج من انحلال وانفلات جنسى، ليس حرية على الإطلاق، بل هو عبودية خطيرة، خرجت بهم من الطهارة والزواج المقدس، إلى الانحراف والزنا والشذوذ وغير ذلك. ولما أدمنوا الجنس، سقطوا فريسة إدمان المخدرات. فلما أدمنوا المخدرات تحولوا إلى مجرمين جانحين، مات بعضهم بمرض فتاك مثل الإيدز، او بجرعة زائدة من المخدرات، أو بجريمة ارتكبوها فدخلوا السجن، أو حكم عليهم بالإعدام لاتجارهم بالمخدرات أو لجريمة قتل...
لذلك يجب أن لا نطمح فى حرية مطلقة، هى فى الحقيقة حرية مزيفة، أقرب إلى العبودية. بل علينا أن نبحث عن الحرية الحقيقية "حرية مجد أولاد الله" (رو 21:
.
الحرية الحقيقية هـى إمكانيــة أن أقول: لا... للخطيئـة!!
وقبـــل ذلك، إمكانيــة الإفراز والتمييز، لأستطيع أن أفرز الغث من السمين، والبناء من الهدام. لذلك فالحرية الحقيقية تحتاج إلى أمرين:
1- الاستنارة... بنور المسيح والإنجيل، وبعمل الروح القدس، لأستطيع أن أميز بين الخطأ والصواب.
2- الإشباع... حينما أشبع بنعمة المسيح، وسكنى روح الله، فأستطيع أن أدوس على عسل الخطيئة المسموم.
لذلك فهناك الآيتان المفتاح لحياة الشباب، وهما :
1- "امتحنوا كل شئ. تمسّكوا بالحسن" (1تس 21:5)، وهذه معناها الاستنارة والإفراز والتمييز، والتفكير السليم فى عواقب الأمور.
2- "النفس الشبعانة تدوس العسل" (أم 7:27)، ومعناها أن الشبع الروحى، وسكنى المسيح، يعطيان الإنسان نوعاً من الاكتفاء والتسامى، حتى أنه يدوس على عسل الخطيئة المسموم.
وهنا يتمتع الإنسان بالحرية الحقيقية، البناءة، الملتزمة، التى تبنيه من كل الوجوه :
روحياً... بالشبع الروحى بالمسيح والكنيسة والإنجيل...
ذهنياً... بالقراءة والدراسة والتأمل والتفكير السليم...
نفسياً... بالانضباط السليم للغرائز والعواطف والعادات...
جسدياً... بالبعد عن التدخين والمسكرات والمخدرات وحياة الدنس...
إجتماعياً... إذ تكون للإنسان علاقات طيبة مع كل من حوله.
ضوابط الحرية الحقيقية الحرية الحقيقية لها ضوابط هامة مثل :
1-
الـــــــروح القـــــدس... الساكـــن فينـــا، مبكتــاً ومرشـــداً، مقدساً، ومعزياً، قائداً ومعطى الثمار والمواهب.
2-
الضمير... صوت الله فى الإنسان، الذى يبكتنى على الخطأ، وينبهنى لكى أعود إلى الصواب.
3-
الإنجيل... حيث النـور الــذى يضـئ جنبات القلب، وطريـق الحياة "خبأت كلامك فى قلبى لكى لا أخطئ إليك" (مز 11:119)، "سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى" (مز 105:119).
4-
التعليم الكنسى... حيث الأضواء العامة على طريق الملكوت، والتحذير الدائم من أسباب الغواية والانحراف.
5-
الأب الروحى... حيث الإرشاد الشخصى المباشـر لى، فى كل ظروف الحيـاة ومنعطفاتها. ومن خلاله آخذ حِلاّ عن خطاياى، وحَلاً لمشاكلى.
6-
القانون الوضعى... حيث يخضع المسيحى لسلطة القانون عملاً بالوصية "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله..." (رو 1:13).
وهكذا نحيا الحرية الحقيقية، بقوة مسيح القيامة الحىّ، الساكن فينا، وقائد مسيرتنا اليومية، فى طريق الأبدية والخلود.